فصل: (سورة البقرة: الآيات 168- 169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: آية 164]:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} واعتقابهما لأنّ كلّ واحد منهما يعقب الآخر، كقوله: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً}.
{بِما يَنْفَعُ النَّاسَ} بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت: قوله: {وَبَثَّ فِيها} عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأنّ قوله: {فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ} عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعًا كالشيء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ فيها من كل دابة.
ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كل دابة لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا.
{وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ} في مهابها: قبولا، ودبورا، وجنوبا، وشمالا. وفي أحوالها: حارّة، وباردة، وعاصفة، ولينة، وعقما، ولواقح. وقيل تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب {وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ} سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة اللَّه يمطر حيث شاء {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون، لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» أى لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. وقرئ: {والفلك}، بضمتين. وتصريف الريح، على الإفراد.

.[سورة البقرة: الآيات 165- 167]:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
{أَنْدادًا} أمثالا من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدلّ بقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}.
ومعنى: {يُحِبُّونَهُمْ} يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب {كَحُبِّ اللَّهِ} كتعظيم اللَّه والخضوع له، أى كما يحب اللَّه تعالى، على أنه مصدر من المبنى للمفعول. وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم اللَّه، أى يسوّون بينه وبينهم في محبتهم، لأنهم كانوا يقرّون باللَّه ويتقرّبون إليه، فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللَّه مخلصين له الدين.
{أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بخلاف المشركين فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى اللَّه عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، ويعبدون الصنم زمانًا ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة.
{الَّذِينَ ظَلَمُوا} إشارة إلى متخذي الأنداد أى لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أنّ القدرة كلها للَّه على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ويعلمون شدّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما في قوله: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا}، وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ: {ولو ترى}، بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب، أى ولو ترى ذلك لرأيت أمرًا عظيما. وقرئ: {إذ يرون}، على البناء للمفعول. وإذ في المستقبل كقوله: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ}.
{إِذْ تَبَرَّأَ} بدل من {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ} أى تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع. وقرأ مجاهد الأوّل على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول، أى تبرأ الأتباع من الرؤساء {وَرَأَوُا الْعَذابَ} الواو للحال، أى تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب {وَتَقَطَّعَتْ} عطف على تبرأ.
{والْأَسْبابُ} الوصل التي كانت بينهم: من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحاب، والأتباع، والاستتباع، كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} {لو} في معنى التمني. ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرّة فنتبرأ منهم {كذلك} مثل ذلك الإراءة الفظيع {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ} أى ندامات وحسرات، ثالث مفاعيل أرى: ومعناه أنّ أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم {وَما هُمْ بِخارِجِينَ} هم بمنزلته في قوله:
هُمْ يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ

في دلالته على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.

.[سورة البقرة: الآيات 168- 169]:

{يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)}.
{حَلالًا} مفعول كلوا، أو حال مما في الأرض {طَيِّبًا} طاهرا من كل شبهة {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} فتدخلوا في حرام، أو شبهة، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام. ومن للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول.
وقرئ: {خطوات} بضمتين، وخطوات بضمة وسكون، وخطؤات بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو وخطوات بفتحتين، وخطوات بفتحة وسكون. والخطوة: المرة من الخطو. والخطوة: ما بين قدمي الخاطي. وهما كالغرفة والغرفة، والقبضة والقبضة. يقال: اتبع خطواته، ووطئ على عقبه. إذا اقتدى به واستن بسنته {مُبِينٌ} ظاهر العداوة لا خفاء به {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ} بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته. أى لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم {بِالسُّوءِ} بالقبيح {وَالْفَحْشاءِ} وما يتجاوز الحدّ في القبح من العظائم، وقيل: السوء ما لا حدّ فيه. والفحشاء: ما يجب الحدّ فيه {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} وهو قولكم: هذا حلال وهذا حرام، بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى اللَّه تعالى مما لا يجوز عليه. فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ}؟
قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ولذلك قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} وقال اللَّه تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت.

.[سورة البقرة: آية 170]:

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170)}.
{لَهُمُ} الضمير للناس. وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم، لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ما ذا يقولون.
قيل: هم المشركون. وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم. وألفينا: بمعنى وجدنا، بدليل قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ} الواو للحال، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب، معناه: أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب.

.[سورة البقرة: آية 171]:

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)}.
لابد من مضاف محذوف تقديره. ومثل داعى الذين كفروا {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أو: ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان- في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوى الصوت، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار- كمثل الناعق بالبهائم، التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعى، كما يفهم العقلاء ويعون. ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم الأصلخ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير، من غير فهم للحروف. وقيل معناه: ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم باطل؟ وقيل معناه: ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع، إلا أنّ قوله إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لا يساعد عليه، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا. والنعيق: التصويت. يقال: نعق المؤذن، ونعق الراعي بالضأن. قال الأخطل:
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإنّمَا ** مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلَاءِ ضَلَالا

وأما «نغق الغراب» فبالغين المعجمة صُمٌّ هم صم، وهو رفع على الذمّ.

.[سورة البقرة: آية 172]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}.
{مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} من مستلذاته، لأنّ كل ما رزقه اللَّه لا يكون إلا حلالا {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الذي رزقكموها {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إن صح أنكم تخصونه بالعبادة.
وتقرّون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «يقول اللَّه تعالى: إنى والجنّ والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيرى وأرزق ويُشكر غيرى».

.[سورة البقرة: آية 173]:

{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.
قرئ {حَرّم} على البناء للفاعل، وحُرِّم على البناء للمفعول، وحَرُم بوزن كرم {أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أى رفع به الصوت للصنم، وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى {غَيْرَ باغٍ} على مضطرّ آخر بالاستيثار عليه وَلا عادٍ سدّ الجوعة.
فإن قلت: في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان».؟ قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أنّ القائل إذا قال: أكل فلان ميتة، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث- وإن أكل لحما في الحقيقة، قال اللَّه تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث- وإن سماه اللَّه تعالى دابة في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأنّ الشحم داخل في ذكر اللحم، لكونه تابعا له وصفة فيه، بدليل قولهم: لحم سمين، يريدون أنه شحيم.

.[سورة البقرة: الآيات 174- 176]:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
{فِي بُطُونِهِمْ} ملء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه {إِلَّا النَّارَ} لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار. ومنه قولهم: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه. قال:
أَكَلْتُ دَمًا إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ

وقال:
يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا

أراد ثمن الإكاف، فسماه إكافا لتلبسه بكونه ثمنا له.
{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة اللَّه إياهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل: نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على صاحبه فصرمه وقطع كلامه. وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله: {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ}.
{فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقيل: فما أصبرهم، فأى شيء صبرهم. يقال: أصبره على كذا وصبره بمعنى.
وهذا أصل معنى فعل التعجب. والذي روى عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضى اليمن بمكة.
اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على اللَّه، فمعناه: ما أصبرك على عذاب اللَّه.
{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ} أى ذلك العذاب بسبب أنّ اللَّه نزل ما نزل من الكتب بالحق {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا} في كتب اللَّه فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب {لَفِي شِقاقٍ} لفي خلاف بَعِيدٍ عن الحق، والكتاب للجنس.
أو كفرهم ذلك بسبب أنّ اللَّه نزّل القرآن بالحق كما يعلمون، وإن الذين اختلفوا فيه من المشركين- فقال بعضهم: سحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: أساطير- لفي شقاق بعيد. يعنى أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا. اهـ.